الصراع الثقافي والاستثمار السياسي / بقلم / د.لبنى مرتضى
الصراع الثقافي والاستثمار السياسي
بقلم : د .لبنى مرتضى
تعتبر التعريفات الفلسفية للثقافة في العصر الحديث, علاقة جدلية بين المعارف والفنون والأديان والقوانين والاختلاف والعادات التي يكتسبها الانسان من المجتمع, لذلك قامت الثقافات على تشكيل رؤية حول العالم, وتصور حول الوجود وربط الذات بما هو خارج عنها, سواء تعلق الأمر بأشياء يقوم بفبركتها ( منطق الصناعة) أو بكائنات تتواصل معها (منطق التصور) وهو الرابط الأساسي والصلة الموثقة بالعالم, الذي يجسد عبر المشاهدة والاحتكاك المباشر فهذا الرهان الذي أعول عليه وأسعى للتعمق فيه, لأنه الرابط بين مجالات الابتكار البشري الذي يساعدنا على تشكيل رؤيا للقادم البعيد.
غير أننا لا نستطيع انكار بروز النزاعات الثقافية على سطح اللحظة التاريخية الراهنة وواجبنا العلمي بل والخلقي أيضا, أن نبحث عن أسباب ذلك, وليس كما صنع (صمويل هنتنجتون_S.Huntington) أن نجعلها هي السبب في تشكيل النظام العالمي الجديد.
فعندما يلح قول موجز, كبرشامة سهلة التناول, على السمع والبصر فانه ما يلبث ان يفرض نفسه تفسيرا مبذولا للجميع, ويدفع عنا مشقة البحث والتمحيص, ويصبح موضوعا للتعقيبات والتأكيدات وخاصة اذا ما جاء على لسان شخصية بارزة مثل (هنتنجتون_S.Huntington) فيرقى الى مستوى الحكمة والمسلمات لأنه يصادف هوى في نفوسنا.
فالمقولة الشهيرة للمؤرخ ( هنتنجتونS.Huntington) في كتابه صدام الحضارات_The Clash of Civilization التي تقول: ( بأن عالم ما بعد الحرب الباردة سيشهد صدام الحضارات) بحد تعبيري ليست دقيقة تماما, فالموضوع هنا يكمن في صدام للثقافات داخل الحضارات ’ مما يجعل الحضارة نفسها مستحيلة في النهاية أو على الأقل مختلة وظيفيا, بدءا من الجائحات الى الجغرافيات السياسية’ تخضع كل قضية الان لحرب ثقافية.
وفي كلمة للسيد جاك شيراك_J.Chirac ، قال مختصرا: لمشهد الصراع العالمي أن القرن التاسع عشر شهد صراع القوميات , والقرن العشرين شهد صراع الإيدلوجيات وأن القرن الواحد والعشرين فسيكون قرنا يشهد صراع الثقافات.
وعلنا لا ننسى أيضا كتاب (نهاية التاريخ والانسان الأخير_END OF HISTORY AND THE LAST MAN) للعالم فرانسيس فوكوياما_Francis Fukuyama، الذي جادل فيه بأن انتشار الديمقرطيات اللبيرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد تشير الى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان.
فما نشهده اليوم هو صراع ثقافات أو صراع هويات, لأن أكثر الانفجارات الصراعية في عالمنا اليوم هولاً وتدميرا, هو ما ينتجه الصدام بين فكرتين ثقافيتين متناقضتين ومتضادتين, من حيث القيم والمشاعر والمعتقدات والأفكار السياسية أو المذهبية أو القومية.
هاتان الشحنتان المتناقضتان في حال صدامهما غير المتقن يفجران الصراع (البارد) أو الساخن في عالمنا اليوم.
بعد انتهاء الحرب الباردة كانت في شكل منها صراعا ثقافيا وفكريا برزت حروب (هويات وثقافات) على المستوى الدولي أو الاقليمي بل وحتى في البلد الواحد تفجر ذلك الصراع في غياب مسطرة التوافق بشكل (متوحش) ان صح التعبير, كمَثل الموقف من الهجرة والمهاجرين وحول الخلاف بالنسبة التي يسمح بها بالهجرة, وجاء ذلك من خلال صراع لقوى ترغب بقوة في شيطنة ثقافات بعينها سواء كانت دينية مذهبية أو سياسية.
وقد تفجرت في شرقنا العربي على نطاق واسع على شكل حروب أهلية ضروس وقد توفرت لها ظروف موضوعية عديدة سواء كانت في العراق أو سورية أو ليبيا أو اليمن.
بل وتفجرت بين مرجعية واحدة مفترضة, كما يحدث في سورية بسبب المكون الثقافي الداخلي العرقي والمذهبي ينتج ذلك تدخلا من الدول الاقليمية من أجل الحاق مجموعات عرقية أو اثنية من جهتها تقوم بجهد مكثف تحت شعارات مختلفة لما يمكن أن يسمى ( إلحاق الهويات بها) أو تحويل ثقافتها إلى ( ثقافة متوحشة) في أماكن معينة, ربما نجحت بسبب الاغراءات الافتراضية لتلك الهويات.
صراع الهويات الثقافية يعرض الدولة العربية إلى الانهاك مما يتسبب بتقسيمها في بعض الأوقات وإفقارها في أوقات أخرى.
كما يحدث بالسودان من تقسيم واضح وتفكيك داخلي على مستوى الهويات الثقافية الفرعية, ذلك يحدث بالعراق وما أحداث الأكراد إلا مثال على ذلك, كما أكراد سورية وتقسيماتها العرقية والأثنية يعرّضان سورية أيضا إلى احتمال جدي في التفكيك. حتى في لبنان البلد الصغير جغرافيا بسبب فرض هوية تابعة للخارج. يفكر البعض علنا هروبا من السيطرة الخفية في استقلالية إدارية للمكونات الثقافية المختلفة.
وهنا نجد أن الصراع الثقافي الذي يتفاقم على سطح الكرة الأرضية يزيده اضطرابا في التقدم الهائل في التقنية الرقمية التي يستطيع أن تروج إلى ثقافة بعينها أو سلوك وتفتت المجتمع إلى شرائح اجتماعية متناقضة وتلهب في نفس الوقت مشاعرهم أو تغريهم لاتخاذ موقف معين تجاه قضية بعينها.
فإن التدخلات السياسية والثقافية السريعة توفر الوقت للفاعلين ضمن المجتمعات من أجل التأقلم مع التغيير والتفكير في المشاكل القديمة بطريقة مختلفة فعلى سبيل المثال نشأة ثقافة المفهوم الإنساني , وهو ردة فعل مجتمعية واعية ضد واقع مرفوض أو غير مشروع لمواجهة الاستبداد و الاستعباد و ظلم أو تمييز أو احتلال.
فهي أثبتت قدرتها على تحقيق أهدافها بدرجة احتضان المجتمع لها وإدراكها السليم للتحديات التي تواجهها وامتلاكها الوعي والرؤية المتماسكة والخلاقة والبنية التنظيمية لفكرة العمل الانساني, ضمن الإرادة الواعية وامكانيات يقتضيها زمنها ومهارات متراكمة في حشد الطاقات , وتتنوع صور العمل الانساني , فالكل عمل أو مبادرة خصوصيته الوطنية والشعبية التي تنبع من واقع مجتمعها والسياقات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بها وطبيعة نشاطها وعملياتها والنتائج المترتبة عليها.
وهنا آخر الكلام نقول: إن المعركة الحقيقية للدولة الوطنية الواحدة اليوم في شرقنا العربي هي العمل الجاد على تشبيك هوية وطنية جامعة منفتحة على قبول الاختلاف المقنن وتفعيل أدوات سيادة القانون وحرية الرأي.
تعليقات
إرسال تعليق
* عزيزي القارئ *
لقد قمنا بتحديث نظام التعليقات على موقعنا، ونأمل أن ينال إعجابكم. لكتابة التعليقات يجب أولا التسجيل عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي أو عن طريق خدمة البريد الإلكتروني...
رئيس التحرير د:حسن نعيم إبراهيم.