أدب المقاومة في مواجهة سجون الاحتلال الصهيوني بقلم الأديبة سناء حسين حسن
سناء حسين حسن
أدب المقاومة في مواجهة سجون الاحتلال الصهيوني
"لا زلنا نطرق أبواب الزنازين من شطة إلى عسقلان ومن نفحة إلى النقب ومن الجلمة إلى أيالون ومن عزل مجدو إلى هداريم وسبع ونيتسان..
جيش باسل من خيرة أبناء هذا الشعب.. نصرخ مكبرين ومهللين ومتحدين للسجان وبطشه وإجرامه الوحشي ، أربعة وثلاثون يوما وما زلنا نتنفس الحرية والكبرياء نسير إلى الموت مبتسمين ونتربع على بطانية سوداء هي كل ما تركوه لنا حول كأس ماء وقليل من الملح
نغني للوطن ولربيع الانتصار القادم، عن أجسادنا لا تسألوا فقد خانتنا وتهاوت منذ أيام أما عن أرواحنا نطمئنكم صامدون كما الصخر في عيبال والجليل، أقسمنا اليمين أن نواصل حتى النصر أو الشهادة"
هذه كلمات الأسير الشهيد ناصر أبو حميد عام ألفين وسبعة عشر في واحد من أكبر الإضرابات عن الطعام التي خاضها الأسرى الفلسطينيون والتي وضعت الحركة الفلسطينية الأسيرة ندا إلى ند في مواجهة حكومة الاحتلال وسجانيه.
ناصر الذي استشهد العام الماضي بسبب سياسة الإهمال الطبي التي تمارسها حكومة الاحتلال بحق أسرانا، تاركا خلفه أمّا لشهيدين وخمسة مؤبدات.ليرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال إلى مئتين واثنين وثلاثين شهيدا منذ عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين منهم:
ثلاثة وسبعون أسيرا استشهدوا نتيجة التعذيب
سبعة وسبعون أسيرا استشهدوا نتيجة الإهمال الطبي
خمسة وسبعون أسيرا استشهدوا نتيجة القتل العمد بعد الاعتقال مباشرة
وسبعة أسرى استشهدوا بعد اصابتهم بأعيرة نارية وهم داخل المعتقلات.
ورغم كل ما يعانيه الأسرى لا يضعف عزيمتهم بل يزيدهم إصرارا وتصميما هذا ما يعبر عنه نائل البرغوثي والذي كان محكوما بأربعين سنة يقول
"لقد شهدت تغيير هذا الباب مرتين والسبب كان التلف تلف الحديد لكن معنوياتنا لن تتلف"
وأدب السجون هو الأدب الانساني النضالي الذي ولد في عتمة وظلام الأقبية والزنازين وخلف القضبان الحديدية ، وخرج من رحم الوجع اليومي والمعاناة النفسية والقهر الذاتي ، والمعبّر عن مرارة التعذيب وآلام التنكيل وهموم الأسير وتوقه لنور الحرية وخيوط الشمس. ف "فاقد الحرية لا يفقد الإرادة" كما قال الأسير وليد دقة.
ويمثل الأدب الذي كتبه المعتقلون الفلسطينيون في المعتقلات "الإسرائيلية" صورة حية وواقعية للمعاناة التي مروا بها وعايشوها، ولم يأت هذا الأدب تنفيسًا عن لحظة اختناق أو تصويرًا للحظات بطولة؛ إنما عبر عن حالة إنسانية وأبعاد فكرية ونضالية يقول وليد دقة "أكتب حتى أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني"
فلا نبالغ إذا قلنا أن نحو خمسة وثمانين بالمئة من أبناء الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة الوطن المحتل دخل المعتقل "الإسرائيلي"، وذاق صنوف العذاب وتشرّب آلام القهر والحرمان، وواجه جلاّده بالصبر والصمود والتحدي؛ منهم من تحرر، وأكثرهم مازال ينتظر، وبعضهم لقي ربه هو يشدّ على القضبان، وكما يقول الأسير وليد دقة "للسجن رائحة تشبه رائحة الموت.. وللموت رائحة الموت ولا شيء آخر"
ولم يقتصر الاعتقال على الرجال؛ بل طال نساء فلسطين المناضلات اللاتي دخلن المعتقل، وتعرضن للتعذيب والقهر والإذلال، إلا أنهن اثبتن شجاعتهن وصمودهن أمام جلاديهن. ومن أسماء النساء اللاتي كتبن خلف القضبان: ناهدة نزال، وزكية شموط، وختام خطاب، وسعاد غنيم، وجميلة بدران، وحليمة فريتخ، وعائشة عودة.
إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفًا أساسيًا للاحتلال" الإسرائيلي "الذي كرّس كل طاقاته وجهوده في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة لتشويش فكره ووعيه، وتشويه سلوكه وأفعاله النضالية؛ من أجل جعله في حالة شك ذاتي؛ لإحباط توجهاته وتفكيك قدراته الكفاحية والثورية؛ بهدف ترويض إبائه وتحطيم إرادته وصموده، وكل هذا لم يستطع أن يثني عزيمة البطل المقاوم ونرى ذلك جليا فيما كتب من داخل الزنازين هاهو الشاعر هشام أبو ضاحي يقول
"سفحوا سنينك يا صديقي
أي روح في الأمد
يا مهجة الأحرار في هذا النفق
ضمد بجرحك جرحنا
واهتف بأنا لن نموت على هوامشها الطرق"
لقد بقي الأسير متعاليا على كل الجراح مؤمنا بأن هذا القيد إلى زوال والفرج قريب
"فالحب فينا ما هدأ
قم يارفيق الدرب حتى تعتلي
هذي الجراح ببحرنا
والقيد يعلوه الصدأ.. القيد يعلوه الصدأ"
والأسير الفلسطيني يعرف الدرب جيدا يقول مروان البرغوثي المحكوم بالمؤبدات " الحقوق لا تهدى من قبل الظالم، الحرية والكرامة حقوق متأصلة في الإنسانية ولن يكون الفلسطينيون استثناء.. إنهاء الاحتلال وحده هو الذي ينهي الظلم"
ومن الأساليب التي سعى الاحتلال "الإسرائيلي" لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوّهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها؛ لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية؛ بل على كل وسيلة ثقافية؛ حتى الورقة والقلم والكتاب؛ فقد كانت سلطات الاحتلال تعتبر أن امتلاك ورقة وقلمًا من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي؛ لهذا لم يسمح الاحتلال بأن يتوجه معتقليه نحو الحضارة والرقي؛ بل عليهم أن يبقوا تحت القهر والإذلال وكتم الأنفاس؛ فكان لابد للمعتقلين من إيجاد وسيلة للتغلب على مشكلة الورقة والقلم؛ فعملوا على تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل؛ أو عن طريق المحامين؛ كما استفادوا من مواسير الأقلام التي كانت توزع عليهم لكي يكتبوا رسائل لذويهم مرة في الشهر؛ وكان لا بد من إخفاء إحدى المواسير وتحمّل تبعات ذلك من عقاب جماعي، ومن ثم استخدموا هذه الماسورة في كتابة ما يريدون؛ وبنفس الطريقة تمكنوا من توفير الورق. كما استخدم المعتقلون مغلفات اللبنة والزبدة بعد غسلها وتجفيفها للكتابة عليها.
وفيما بعد استطاع الأسرى بصمودهم وتحديهم للسجان الحصول على ما يراه البعض رفاهية كالقراءة والكتابة والتعليم والتسجيل في الجامعات وقد كلفهم هذا دماء وشهداء أولهم الأسير الشهيد عبد القادر أبو الفحم الذي استشهد في إضراب عام ألف وتسعمئة وسبعين وآخرهم الشهيد الشيخ خضر عدنان الذي استشهد في إضرابه الفردي عن الطعام الذي استمر ستة وثمانين يوما.
وقد خلد الأسرى بكتاباتهم هذه الإضرابات فهاهو هشام أبو ضاحي يقول
"ما أجملك.. أعلنت حرب الجوع والأمعاء
في كل القبور
تألقت آلامنا خلف الشبك
ما أجملك.. والفجر في عينيك في شفتيك
ما أجملك.. والقيد والقضبان تدمي جبهتك
ما أجملك.. والشعب كل الشعب يرقب عودتك
ما أجملك والوعد يملأ قبضتك"
يسطر الأسرى الفلسطينيون يوميا ملاحم العز والبطولة والفخار.. في كل يوم يبقون فيه على قيد الحياة داخل هذه الزنازين الموحشة
لقد كتب الأسرى انتصاراتهم بدمائهم على جدران عزلهم.. فعلى مدى عقود من الاعتقال واجهوا وتحدوا السجان بكل قوة وجبروت متحملين خذلان العالم أجمع، وقد وصف الشاعر وسيم الكردي حالة الاشتباك مع السجان
"وتحوم في الأركان لاهثة
جنازير لها
عبّت دماء الروح راقصة
تغب ولا تذر.. حتى اكتمال المجزرة
دمنا يصير مدادها والمحبرة
وتخط فوق صحائف من جلدنا
إن العساكر أمة متحضرة"
والزمن في السجن يمضي ببطء لا يشبه زمننا العادي في الخارج الزمن عندهم مؤلم في كل ثانية وهذا ما أكده وليد دقة في كتابه الزمن الموازي إذ يقارن بين الزمن الحقيقي وزمن الأسير يقول "وقتنا يمضي ووقتهم ماله طرفان"
أما معاذ الحنفي يصف سنواته الطوال في السجن
"عشرون عاما لم تنل منك السنين
عشرون نارا للشتاء
عشرون بئرا تعبق الصحراء ماء"
والشاعر محمود الغرباوي فيتألم لمرور سنيه أمامه دون نتيجة يقول
" لست أبكي.. شعرة بيضاء صارت
عندما أوغلت في غاب الزمن"
إن الأسير الفلسطيني لا يملك رفاهية الاستسلام بل هو مصمم على الصمود حتى الوصول إلى حقه في الحرية والحياة وكلنا نذكر الأسرى الستة الذين حفروا نفقا وخرجوا إلى الحرية من أكثر سجون الاحتلال تحصينا في أيلول عام ألفين وواحد وعشرين، أذكركم بما قاله الأسير محمود عارضة أحد أبطال عملية نفق الحرية
"تحققت الحرية والإرادة في أول لحظة حدّثت بها أصدقائي بالهروب من “سجن الخزنة” الأعقد أمنياً في كيان الاحتلال، ووصلت تلك الحرية ذروتها في لحظة البزوغ من فتحة النفق.
المعركة طويلة، والحرب سجال. وقد خططت للهرب أكثر من مرة لا يهزمني جبروت السجّان وإجرامه. ممكنات الفعل لا تنضب، ونحن الأحرار خارج السور أو داخله."
ويقول "عندما حفرنا هذا النفق حطمنا عقيدة الكيان وأردنا أن نقول للأمة أن هذا الوحش هو وهم من غبار"
ولنقرأ هذه الجمل التي كُتبت في مكان له جدران باردة تُقفله أبواب حديدية حراسها لا يعتبرون من البشر، وهي جزء من كتابات الأسير عمار الزبن وتحديدا روايته "الزمرة"
"أن تسكن حفرة جدرانها من التراب، مقوّسة السقف، مغلقة من جميع الجهات ما دون فتحة البئر، وقد تركت ظهر الأرض بما فيه وراءك، لا بد أنك مختلف حد الجنون العاقل، كانوا يدركون أنهم خمس حكايات مختلفة، أعينهم تفضح ذلك ، يقظتهم كشفت كيف ينسجون احلامهم، فمهما أخفت الأمر جدية مهمتهم لن تستطيع سلب إنسانيتهم التي تتحرك".
وعمار هو أحد الأسرى المحكومين بالمؤبدات وهو أول أسير رزق بطفل عبر النطف المهربة من سجون الاحتلال والتي زادت اليوم عن المئة طفل خرجوا تهريبا من أمام أعين السجانين.
واحد من هؤلاء الأسرى وليد دقة والذي يعاني المرض بعد أن قضى ما يزيد على سبعة وثلاثين عاما داخل أسوار السجن وقد رزق بطفلته الجميلة ميلاد عام ألفين وثمانية عشر بعد محاولات كثيرة باءت بالفشل، هذه الطفلة التي كان ينتظرها منذ أعوام كثيرة وقد كتب لها رسالة قبل أن تولد يقول فيها
"أكتب لطفل لم يولد بعد..
أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق..
أكتب لأي طفل كان أو طفلة..
أكتب لابني الذي لم يأت الى الحياة بعد..
أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/أو نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا..
أتحسبني يا عزيزي قد جننت؟؟ أكتب لمخلوق لم يولد بعد؟؟
أيهما الجنون.. دولة نووية تحارب طفلاً لم يولد بعد فتحسبه خطراً أمنياً، ويغدو حاضراً في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.. أم أن أحلم بطفل؟؟
أيهما الجنون.. أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفاً في المخابرات؟؟
أنت يا عزيزي تملك الآن ملفاً أمنياً في أرشيف الشاباك الإسرائيلي.. فما رأيك؟؟
..
هل أكف عن حلمي؟؟
سأظل أحلم رغم مرارة الواقع..
وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها..
هم ينبشون قبور الأجداد بحثاً عن أصالة موهومة..
ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد.. لا شك آت..".
تعليقات
إرسال تعليق
* عزيزي القارئ *
لقد قمنا بتحديث نظام التعليقات على موقعنا، ونأمل أن ينال إعجابكم. لكتابة التعليقات يجب أولا التسجيل عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي أو عن طريق خدمة البريد الإلكتروني...
رئيس التحرير د:حسن نعيم إبراهيم.